فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يسري بعباده، وهم بنو إسرائيل فيخرجهم من قبضة فرعون ليلًا، وأن يضرب لهم طريقًا في البحر يبسًا، أي يابسًا لا ماء فيه ولا بلل، وأنه لا يخاف دركًا من فرعون وراءه أن يناله بسوء. ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه. وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع، كقوله في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 52-63]. فقوله في الشعراء: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} أي فضربه فانفلق يوضح معنى قوله: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا فِي البحر يَبَسًا}، وقوله: {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62] الآية يوضح معنى قوله: {لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تخشى} وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله في الدخان: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ واترك البحر رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 22-24] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرفًا من ذلك في سورة البقرة والقصة معروفة واضحة من القرآن العظيم. وقرأ نافع وابن كثير {أَنْ أَسْرِ} بهمزة وصل وكسر نون {أَنْ} لالتقاء الساكنين والباقون قرؤوا {أَن آسْرِ} بهمزة قطع مفتوحة مع إسكان نون {أَنْ} وقد قدمنا في سورة هود أن أسرى وسرى لغتان وبينا شواهد ذلك من العربية. وقرأ حمزة {لاَ تَخَفْ} بسكون الفاء بدون ألف بين الخاء والفاء، وهو مجزوم بشرط محذوف تدل عليه صيغة الطلب، أي أن تضرب لهم طريقًا في البحر يبسًا لا تخف. وعلى قراءة الجمهور {لا تخاف} بالرفع، فلا إشكال في قوله: {وَلاَ تخشى} إشكال معروف، وهو أنه معطوف على مضارع مجزوم، وذلك يقتضي جزمه، ولو جزم لحذفت الألف من {تَخْشَى} على حد قوله في الخلاصة:
واحذف جازما ** ثلاثهن تقض حكمًا لازما

والألف لم تحذف فوقع الإشكال بسبب ذلك.
وأجيب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول أن {وَلاَ تخشى} متسأنف خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وأنت لا تخشى، أي ومن شأنك أنك آمن لا تخشى.
والثاني أن الفعل مجزوم، والألف ليست هي الألف التي في موضع لام الكلمة، ولكنها زيدت للاطلاق من أجل الفاصلة، كقوله: {فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67]، وقوله: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10].
والثالث أن إشباع الحركة بحرف مد يناسبها أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية، كقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي:
وتضحك مني شيخة عبشمية ** كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا

وقول الراجز:
إِذا العجوز غضبت فطلق ** ولا ترضاها ولا تملق

وقول الآخر:
وقلت وقد خرت على الكلكال ** يا ناقتي ما جلت من مجال

وقول عنترة في معلقته:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة ** زيافة مثل الفنيق المكدم

فالأصل في البيت الأول: كأن لم تر، ولكن الفتحة أشبعت. والأصل في الثاني ولا ترضها، ولكن الفتحة أشبعت. والأصل في الثالث على الكلكال يعني الصدر، ولكن الفتحة أشبعت. والأصل في الرابع ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته على التحقيق، ولكن الفتحة أشبعت، وإشباع الفتحة بألف في هذه الأبيات وأمثالها مما لم نذكره ليس لضرورة للشعر لتصريح علماء العربية بأنه أسلوب عربي معروف. ويؤيد ذلك أنه مسموع في النثر، كقولهم في النثر: كلكال، وخاتام، وداناق، يعنون كلكلًا، وخاتمًا، ودانقًا. وقد أوضحنا هذه المسألة، وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة البلد في الكلام على قوله: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] مع قوله: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3] وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا}: فاجعل لهم طريقًا، من قولهم: ضرب له في ماله سهمًا، وضرب اللبن عمله. اهـ.
والتحقيق أن {يَبَسًا} صفة مشبهة جاءت على فعل بفتحتين كبطل وحسن. وقال الزمخشري: اليبس مصدر وصف به. يقال: يبس يبسًا ويبسًا، ونحوهما العدم والعدم، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس. إذا جف لبنها.
وقوله: {لاَّ تَخَافُ دَرَكًا} الدرك: اسم مصدر بمعنى الإدراك، أي لا يدركك فرعون وجنوده، ولا يلحقونك من ورائك، ولا تخشى من البحر أمامك. وعلى قراءة الجمهور {لاَّ تَخَافُ} فالجملة حال من الضمير في قوله: {فاضرب} أي فاضرب لهم طريقًا في حال كونك غير خائف دركًا ولا خاش. وقد تقرر في علم النحو أن الفعل المضارع المنفي بلا إذا كانت جملته حالية وجب الربط فيها بالضمير وامتنع بالواو. كقوله هنا: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا} أي في حال كونك لا تخاف دركًا، وقوله: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} [النمل: 20] وقوله: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} [المائدة: 84] ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:
ولو أن قومًا لارتفاع قبيله ** دخلوا السماء دخلتها لا أحجب

يعني دخلتها في حال كوني غير محجوب، وبذلك تعلم أن قوله في الخلاصة:
وذات بدء بمضارع ثبت ** حوت ضميرًا ومن الواو خلت

في مفهومه تفصيل كما هو معلوم في علم النحو.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)}.
التحقيق أن أتبع واتبع بمعنى واحد. فقوله: ف {أَتْبَعَهُمْ} أي اتبعهم، ونظيره قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]، وقوله: ف {فََأَتْبَعَهُ الشيطان} [الأعراف: 175] الآية. والمعنى: أن موسى لما أسرى ببني إسرائيل ليلًا أتبعهم فرعون وجنوده {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم} أي البحر {مَا غَشِيَهُمْ} أي أغرق الله فرعون وجنوده في البحر فهلكوا عن آخرهم. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن فرعون أتبع بني إسرائيل هو وجنوده، وأن الله أغرقهم في البحر أوضحه في غير هذا الموضع. وقد بين تعالى أنهم اتبعوهم في أول النهار عند إشراق الشمس، فمن الآيات الدالة على اتباعه لهم قوله تعالى في الشعراء: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} يعني سيتبعكم فرعون وجنوده. ثم بين كيفية اتباعه لهم فقال: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 53-62] وقوله في هذه الآية: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أي أول النهار عند إشراق الشمس. ومن الآيات الدالة على ذلك أيضًا قوله تعالى في يونس: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس: 90]، وقوله في الدخان: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} [الدخان: 23] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اتباعه لهم. وأما غرقه هو وجميع قومه المشار إليه قوله هنا: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} فقد أوضحه تعالى في مواضع متعددة من كتابه العزيز. كقوله في الشعراء: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 63-67] الآية، وقوله في الأعراف: {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم} [الأعراف: 136] الآية، وقوله في الزخرف: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]، وقوله في البقرة: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 50]، وقوله في يونس: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90]، وقوله في الدخان: {واترك البحر رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] إلى غير ذلك من الآيات. والتعبير بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} يدل على تعظيم الأمر وتفخيم شأنه، ونظيره في القرآن قوله: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} [النجم: 16]، وقوله: {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] {فَغَشَّاهَا مَا غشى} [النجم: 54]، وقوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10]. واليم: البحر. والمعنى: فأصابهم من البحر ما أصابهم وهو الغرق والهلاك المستأصل.
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)} يعني أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليها. وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29] ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 96-98] والنكتة البلاغية في حذف المفعول في قوله: {وَمَا هدى} ولم يقل وما هداهم، هي مراعاة فواصل الآيات، ونظيره في القرآن قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا في البحر يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تخشى}.
افتتاح الجملة بحرف التحقيق للاهتمام بالقصة ليلقي السامعون إليها أذهانهم.
وتغيير الأسلوب في ابتداء هذه الجملة مؤذن بأن قصصًا طويت بين ذكر القصتين، فلو اقتصر على حرف العطف لتوهّم أن حكاية القصة الأولى لم تزل متصلة فتُوهم أن الأمر بالخروج وقع مواليًا لانتهاء مَحْضَر السحرة، مع أن بين ذلك قصصًا كثيرة ذُكرت في سورة الأعراف وغيرها، فإن الخروج وقع بعد ظهور آيات كثيرة لإرهاب فرعون كلما همّ بإطلاق بني إسرائيل للخروج.
ثمّ نكَل إلى أن أذن لهم بأخَرَة فخرجوا ثمّ ندم على ذلك فأتبعهم.
فجملة {ولقَدْ أوْحَيْنَا إلى موسى} ابتدائية، والواو عاطفة قصة على قصة وليست عاطفة بعض أجزاء قصة على بعض آخر.
و{اسْرِ} أمرٌ من السُرَى بضم السين وفتح الراء وتقدّم في سورة الإسراء أنه يقال: سَرَى وأسرى.
وإنما أمره الله بذلك تجنّبًا لنكول فرعون عليهم.
والإضافة في قوله: {بِعِبَادي} لتشريفهم وتقريبهم والإيماءِ إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسُوا عبيدًا لفرعون.
والضرب: هنا بمعنى الجَعْل كقولهم: ضَرَب الذهبَ دنانير.
وفي الحديث: «واضربوا إليّ معكم بسهم» وليس هو كقوله: {أن اضْرِب بعصاك البحر} [الشعراء: 63] لأنّ الضرب هنالك متعد إلى البحر وهنا نصَب طريقا.
واليَبَس بفتح المثناة والموحدة.
ويقال: بسكون الموحدة: وصف بمعنى اليابس.
وأصله مصدر كالعَدَم والعُدْم، وصف به للمبالغة ولذلك لا يؤنث فقالوا: ناقة يَبَس إذا جفّ لبنها.
و{لا تخافُ} مرفوع في قراءة الجمهور، وعدٌ لموسى اقتصر على وعده دون بقية قومه لأنه قدوتهم فإذا لم يخف هو تشجعوا وقوي يقينهم، فهو خبر مراد به البُشرى.
والجملة في موضع الحال.
وقرأ حمزة وحده لا تَخَفْ على جواب الأمر الذي في قوله فاضرب، وكلمة {تَخَفْ} مكتوبة في المصاحف بدون ألف لتكون قراءتها بالوجهين لكثرة نظائر هذه الكلمة ذات الألف في وسطها في رسم المصحف ويسميه المؤدبون المحذوفَ.
وأما قوله: {وَلاَ تخشى} فالإجماع على قراءته بألف في آخره.
فوجه قراءة حمزة فيها مع أنّه قرأ بجزم المعطوف عليه أن تكون الألف للإطلاق لأجل الفواصل مثل ألف {فأضلونا السبيلا} [الأحزاب: 67] وألف {وتظنون بالله الظُنونا} [الأحزاب: 10]، أو أن تكون الواو في قوله: {ولا تخشى} للاستئناف لا للعطف.
والدّرَك بفتحتين اسم مصدر الإدراك، أي لا تخاف أن يدركك فرعون.
والخشية: شدّة الخوف.
وحذف مفعوله لإفادة العموم، أي لا تخشى شيئًا، وهو عامّ مراد به الخصوص، أي لا تخشى شيئًا مما يخشى من العدوّ ولا من الغرق.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)}.
الفاء فصيحة عاطفة على مقدر يدلّ عليه الكلام السابق، أي فسرى بهم فأتبعهم فرعون، فإن فرعون بعد أن رأى آيات غضب الله عليه وعلى قومه وأيقن أنّ ذلك كله تأييد لموسى أذن لموسى وهارون أن يخرجا بني إسرائيل، وكان إذْن فرعون قد حصل ليلًا لحدوث موتان عظيم في القبط في ليلة الشهر السابع من أشهر القبط وهو شهر برمهات وهو الذي اتّخذه اليهود رأس سنتهم بإذن من الله وسمّوه تِسّرِي فخرجوا من مدينة رعمسيس قاصدين شاطىء البحر الأحمر.
وندم فرعون على إطلاقهم فأراد أن يلحقهم ليرجعهم إلى مدينته، وخرج في مركبته ومعه ستمائة مركبة مختارة ومركبات أخرى تحمل جيشه.
وأتْبَع: مرادفع تَبِع.
والباء في {بجُنُودِهِ} للمصاحبة.
واليمّ: البحر.
وغشيانه إياهم: تغطيته جُثَثَهم، أي فغرِقوا.
وقوله: {مَا غَشِيَهُمْ} يفيد ما أفاده قوله: {فَغَشِيَهُم مِنَ اليَمّ} إذ من المعلوم أنهم غشيهم غاششٍ، فتعيّن أن المقصود منه التهويل، أي بلغ من هول ذلك الغرق أنّه لا يستطاع وصفه.
قال في الكشاف: هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة.
وهذا الجزء من القصة تقدم في سورة يونس.
وجملة {وأضلّ فرعونُ قومه} في موضع الحال من الضمير في {غَشِيَهُمْ}.
والإضلال: الإيقاع في الضلال، وهو خطأ الطريق الموصّل.
ويستعمل بكثرة في معنى الجهالة وعَمَل ما فيه ضرّ وهو المراد هنا.
والمعنى: أنّ فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بثّ فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى عليه السلام.
وعَطْفُ {وما هدى} على {أضلّ}: إما من عطف الأعمّ على الأخص لأنّ عدم الهدى يصدق بترك الإرشاد من دون إضلال؛ وإما أن يكون تأكيدًا لفظيًا بالمرادف مؤكدًا لنفي الهدى عن فرعون لقومه فيكون قوله: {وما هدى تأكيدًا لأضلّ} بالمرادف كقوله تعالى: {أموات غير أحياء} [النحل: 21] وقول الأعشى:
حفاة لا نعال لنا

من قوله:
إمّا تَرَيْنَا حُفَاةً لا نِعال لنا ** إنّا كذلككِ ما نحفَى وننتعل

وفي الكشاف: إن نكتة ذكر {وما هدى} التهكم بفرعون في قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} اهـ.
يعني أن في قوله: {وما هدى} تلميحًا إلى قصة قوله المحكي في سورة غافر (29): {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وما في هذه من قوله: {بطريقتكم المثلى} [طه: 63]، أي هي هَدْي، فيكون من التلميح إلى لفظ وقع في قصة مفضيًا إلى التلميح إلى القصة كما في قول مُهلهل:
لو كُشِف المقابر عن كُليب ** فخُبّر بالذّنائب أيُّ زير

يشير إلى قول كُليب له على وجه الملامة: أنتَ زِير نساء. اهـ.